العشق الآخر

 

فؤاد الصفا:

 

حين نكتب عن الشعر، يكون كلامنا  دائما دون المعنى أو فوقه، فالشعر كلام لا يتناسب مع أي خطاب حوله، وحين نكتب عن الحب يكون كلامنا دائما دون التجربة أو فوقها لأن الحب خطاب ذاته، لا يحتمل تحويله إلى موضوع. لذا، لا يقبلنا الشعر في خطابه إلا إذا دخلناه من باب العشق.

ما العلاقة بين الشعر والحب؟ كلاهما مضي إلى حدود المعنى والحياة والمحتمل. في الحب، كما في الشعر، لا يمكن انتظار نهاية ما، ولا نعرف ما الذي يمكن انتظاره. الحب والشعر تجميع للتفاصيل لتصبح جوهر الحياة.يجمع بين تقطع أنفاس العاشق/العاشقة واحتقان كلمات القصيدة جنون الرغبة في امتلاك المستحيل.

وحين يكون العشق أنثويا تعاد صياغة كلمات العالم فيصير الشعر الملاذ الوحيد للعشق الأنثوي.

 

المرأة التي تنشد

“أذكر شقيقاتي في السؤال” هكذا تلتئم عشيرة العاشقات، عشيرة لا يجمعها مدلول مليء إنما يجمعها السؤال الذي منبعه الشوق واليأس والمحال ولا يستند على مبدأ، ” نهاره لا ينتهي ولا يبدأ، وليله محال” هذا الوضع الذي لا إسم له هو وضع المرأة التي تنشد عشقها.

* هذا النص تبادل مع النص الشعري الذي أصدرته مؤخرا فاتحة مرشيد، “تعال نمطر” عن دار شرقيات، 2005. وهو يتشكل استجابة لانفتاح خطاب عاشق آخر، أنثوي، يعيد ترتيب الخطاب السائد حول الحب. ولعل أولى درجات تلقي ذلك الخطاب في صورته الشعرية، هي استمراء الخرق الذي يقترفه والاستمتاع باللذة التي تولدها استعارة الإنشاء العاشق حين يكون أنثويا.

في فراغ العشق تصنع العاشقة المنشدة فراغ الشعر فهي تنشد، مثل رامبو، “قصيدا لا يكتمل”. يصبح رامبو هنا عاشقا غريبا يتماهى مع المرأة العاشقة في كونهما تخليا عن صلابة الكلمة، واكتمال الخطاب:

” كما تخليت

عن الشعر

تخليت

عن خريف عينيك

لأمضي

إلى حيث الشعر

يحتضر”

هكذا، حين تنشد المرأة العاشقة عشقها يفقد العالم نظامه المقنن ويعيد ترتيب أشيائه وعلاقاته ويكشف عن هشاشة المتانة التي يوهم بها نفسه: ما من امتلاك ولا حقيقة ولا قوة ولا بطولة. وهذا ما يفتح منظورا مختلفا لصقل الحب، قد يكون الشعر في لغته النسائية أحد مداخله الكبرى.

 

الجسد الممطر

“تعال نمطر

ونبلل

بالملام لحافنا”

مثل غيمتين تمطران حين التقائهما وانصهارهما في غيمة واحدة، يستحيل جسد المرأة عند لقائه بجسد الرجل إلى ماء لا هوية له: مطر أو ندى أو دموع أو نزيف أو عرق أو ” فيض ثدي”. كأن الجسم يرتج بسائله ليروي عطشا لا يرتوي.

يستحيل جسم المرأة العاشقة/المنشدة إلى عنصر مائي، أصل لأشياء لا يتحقق في أشياء الحياة إنما يرغب إليها ويحن إلى منحها ذاتها ويعيد خلقها لتجد حقيقتها/وهم حقيقتها التي تجعل الحياة ممكنة أي “ليظل وهمي بالحياة قائما”.

أصل غير مكتمل إذن، بل لا يكتمل إلا في فراغ لرغبته وحنينه وشوقه. فمطر الجسد وعد ونداء_ “تعال “، نداء يفتح هوة اللقاء ليتلاشى فيها تماسك الامتلاك ويعلن عن هشاشة أصيلة يضاعفها وعد اللقاء.

 

الوجه الأنثوي للعالم

للعالم وجه أنثوي ليس ذاك الذي يدركه الرجل، وجه يتخلل الخطاب الذي يلامس الأشياء ولا يمتلكها، يتردد ولا يغلق الحقيقة، يحس ولا يحسب، يضرع الحكمة حبا ويترك أمكنة الوثوق فارغة.

يتحدث كارل جوستاف يونج عن “المبدأ الأنثوي” كقوة تقوم على الترابطية والنزوع نحو الكلية ضد التجزيء والتخصيص، كما تقوم على حب غير مشروط هو أساس الرابطة مع العالم والآخرين، وتلك القوة تظهر في العالم ما تحجبه إرادة المعرفة بوصفها تملّك.

هذا المبدأ الأنثوي ليس مبدأ عقليا مع ذلك لأن كل مبدأ يختزل المرأة في جوهر، إنما يكون بعيدا عن أ، يفي بحقيقتها المنفتحة (لا حقيقتها)، العلائقية واللا متناهية. لذا فالسؤال: “كيف نعرف المرأة؟” سؤال لا موضوع له إذا ما أنصتنا إلى انسياب كينونتها خارج المقولات العقلية:

” لأنه لا جبل لي

نَصبَتْه

من رميم العظام

دواخلي ”

هذا الخواء الذي تصنعه كلمات المرأة فتفرغ ذاتها من أي مضمون، يستجيب له رامبو الذي أعلن موت شعره برحيله وأعلن من ثمة موت الشعر الممتلئ وهو ينسج شعرا/موسيقى لا متناهية:

“أموت هذا

الذي يلبسني

أم ولادة

يا رامبو؟”

والعشق هو أعمق هذا الانفلات الذي يدفع بنا بعيدا عن الرموز البانية لذواتها:

“عاشق أنت

لا بطل

تحمل غربتك

وتمضي

باحثا عن شيء فيك

شبيه

بسراب الحلم

عند اليقظة”

 

تعال نمطر

يبدو العنوان دائما دعوة أو علامة تشير إلى مدخل لفضاء مسور معلوم أو دالاًّ يلم مجموع الكتاب ويحده ويعطيه وحدته. “تعال نمطر” هي تكبير لبيت شعري في النص، فيصبح البيت عنوانا بالمعنى البريدي للكلمة أي أنه ضروري واعتباطي في الآن نفسه، إشارة لا تحمل مضمونا غير أنه كذلك اجتزاء يرن كبقية من صدى قراءة أو كتابة لم تكتمل. كأن العين تقف عند هذه الشذرة كما تقف عند تفصيل في لوحة فيصبح التفصيل مشهدا في حد ذاته، لوحة داخل اللوحة تمثل بناءا لا متناهيا.

 

رجل أقل من جسده

يكون على العاشقة المنشدة أن تجد كلمات حبها لتصنع صورة المعشوق:

“أبحث بين شفتيك

عن قصيدة تشبهني

تريدني أخرى

أريد رجلا

يُعيدني إليَّ”

كيف تصنع الشاعرة رجلها؟ عاشقا، طفل، بطل بدون بطولة، أو لنقل قفا الرجل المتعارف عليه، فهو يغيب وراء رغبته كأنه لا يستجيب لتلك الرغبة الأخرى

التي تعلن عنها المرأة العاشقة: الرغبة في التلاشي والحنين اللا متناهي. للرجل صورة المعشوق الذي يكاد يكون دون جدوى فهو حاضر كمخاطب يملأ مشهدا، لكنه يملؤه بوجود مجرد (إعلاء؟).

في قصيدة “ذات مطر” لا وجود للمعشوق سوى كغائب لا ملامح له، لا تبلغه اليد، لا يضمه المكان، أسم يحضر في رمزيته التي ما أن نسعى إلى الإمساك بها حتى يلفها الشك.

 

ما دون الاستعارة

كيف ينفتح خطاب عاشق آخر ، مختلف، من خلال شعر المرأة بوصفها عاشقة أزلية، وكيف يطبع اختلافه داخل الخطاب المهيمن على حقيقة الحب، أي كيف يكون قابلا للقراءة من داخل انغلاق هذه الهيمنة؟

أمام انفلات الاستعارة (نواة كل خطاب، أي جوهره الفارغ؟) من سنن الدلالة المليئة بالمعنى، وإثارتها من ثمة شعور بالتوجس والغرابة، تنفتح إمكانية خلخلة تمس تماسك معالم القابلية للقراءة التي تحدد رؤيتنا للعالم.

من هذه التشققات يمكن إقامة انصات لأصوات استيهام ما قبل تاريخ ذاكرتنا المنظمة، استيهام التناهي مع جسد الأم العاشقة. ما قبل تشكل الخطاب ما دون الاستعارة؟ وشعر فاتحة مرشيد نداءات تمر عبر تشققات الأنا فتنساب كما ينساب الماء الذي يفتح طريقه هادئا وصامتا، من غير توقف.

 

جريدة العلمالملحق الثقافي، 25 ماي 2006 العدد 20429