الورقة  13

 

2-البروفيسور عبد الرحيم الهاروشي

لعب هذا الإنسان بكل ما تحمله معاني الإنسانية من نبل وعطاء، دورا مهما في مسار وتكوين فاتحة مرشيد الطبيبة. فقد تعرفت على البروفيسور عبد الرحيم  الهاروشي أستاذا لها بالكلية وبعد ذلك رئيسا لقسم جراحة الأطفال في المستشفى الذي يحمل اسمه حاليا، قبل أن يتدخل في رسم أقدار ما كانت تتخيل قبلها أنه ستطأ أراضيها: العيادة الخاصة، التلفزيون، الإذاعة، جمعية آفاق..

أثناء مرحلة  التخصص التي تدوم أربع سنوات، كان عليها أن تقضي بضعة أشهر، قصد التمرين، في كل قسم من أقسام مستشفى الأطفال.  في السنة الأخيرة كان لها حظ التمرن تحت توجيهاته  بقسم جراحة الأطفال الذي كان البروفيسور الهاروشي أول من  أسسه بمستشفى الأطفال ابن رشد بعد عودته إلى المغرب، حيث التحقت بجناح الإنعاش. تحكي فاتحة عن هذا الرجل الاستثنائي كما تصفه:

“كان جراحا متميزا للأطفال، وبفضل كاريزماه القوية وانضباطه وشخصيته الجدية، كان الجميع من طلبة وأساتذة يحترمونه كثيرا بل يهابونه.”

كان أول احتكاك لها بالهاروشي بسبب حالة مستعصية لطفل بجناح الإنعاش بقسم جراحة الأطفال. طلبت منه الاستشارة أمام عجز الزملاء ومعاينة الطفل بنفسه.  لم يتردد، مقدرا لها هذا التصرف ومن ثم نشأت علاقة صداقة قوية معه وثقة كبيرة. وأصبح منذ ذاك الحين، كلما احتاج الأمر إلى تدخل اختصاصي في طب الأطفال بجانب عمله الجراحي، يطلب رأيها أو يحول بعض الحالات إليها.

“كانت فرصة تدريبي بقسمه فرصة لاكتشاف الجراح المتمكن الذي له طقوس خاصة في العمل، كان وهو يجري العمليات، ينصت الى موسيقى كلاسيكية هادئة كأنه يرسم لوحة للحياة،  يشرح بسخاء ويوضح كل خطوات الجراحة بدقة  لامتناهية. أمضيت ستة أشهر بقسمه اكتشفت خلالها الطاقة الاستثنائية التي يتمتع بها وعطاءه اللامحدود لمهنته. هو الذي حُرم متعة الأبناء كان أطفال المغرب كلهم أبناءه. كان ينتهي من غرفة العمليات في الثانية زوالا ويذهب للكلية حتى السادسة وبعدها يطلب منا الالتحاق بجمعية “آفاق” والتي قد تستمر اجتماعاتها الى الساعة الحادية عشر ليلا”.

تتذكر فاتحة ضاحكة ظروف تأسيس جمعية “آفاق”،  التي تمت خلال  مراسيم عزاء أخيه، ففي غمرة  الحزن كان عقله مسكونا بالتفكير في صحة المواطنين. لهذا وضع لائحة بأسماء المنخرطين مقترحا عليها في نفس اللحظة هذه الأسماء وخطة العمل. كانت  فاتحة تتدخل كثيرا من أجل مساعدته  في ما يخص إتقانه للغة العربية وفي هذا  الصدد كانت كثيرا ما تصاحبه في لقاءاته الإذاعية. ومن شدة حماسه لتعلم اللغة العربية، أهدته أول قاموس فرنسي – عربي (الكامل الكبير)، فاكتشفت لديه ذكاء خارقا في تعلم هذه اللغة التي بحكم تكوينه الفرنسي ومقامه بالخارج لم يكن يتقنها. وعندما أصبح وزيرا استثمر جيدا كل ما قرأه، أصبح يتحدث العربية بدون عوائق.

أحبَّ الهاروشي بلده كثيرا، وتفانى في عمله وكان صاحب مشاريع عديدة  ويصر على إنجازها. كان مبدعا  خلاقا في ابتكار الأفكار فيما كانت زوجته كلود سندا داعما له.  إذ كان يكفي أن يعلن عن فكرة، لتتلقفها هي وتشرع في بلورتها على أرض الواقع. لقد كانت ذاك الجندي الذي يعمل في الخفاء وكان هو يقدرها حق تقدير.

تتذكر فاتحة يوم جند جميع الطلبة والأطباء بالمستشفى  للقيام بعملية ختان جماعي للأطفال المستضعفين. ظل الهاروشي طيلة اليوم يتنقل بين الأطباء والجراحين بصرامته المعهودة في التنظيم إلى آخر اليوم دون كلل، قبل أن يقتعد كرسيا وعلامات التعب بادية على وجهه الذي كانت ترتسم عليه رغم كل هذا، علامات الفرح والرضا.

كان معروفا عن البروفيسور أثناء ممارسته مهامه على رأس وزارة الصحة، زياراته المفاجئة للمستشفيات والمراكز الصحية بالمدن النائية والهامشية لمعاينة ظروف العمل بها وحاجيات المرضى.

عن هذا الجانب الإنساني في شخصيته، تقول فاتحة إنه حتى بعد استقراره بالقطاع الخاص، كثيرا ما كانت  ترسل له أطفالا  في حاجة إلى عمليات جراحية لا تسمح وضعياتهم الاجتماعية بإجرائها في القطاع الخاص،  وكان لا يتردد في تقديم المساعدة.

لم  تستطع فاتحة الاستمرار معه  في جمعية “آفاق” لأنها لحظتها  كانت قد تحررت من العديد من الالتزامات بالتخلي عن الاشتغال في التلفزيون للتفرغ للكتابة ووجدت منه تفهما كبيرا للأمر.

تقول فاتحة “عندما اشتد عليه المرض، اتصلت به أستأذنه في زيارته ببيته، فردّ بأدب وبكبرياء الوجع: ” أفضل ألا ترينني في وضعي الحالي وأن تحتفظ ذاكرتك بالصورة التي عرفتني بها.”

عندما عاد من العلاج بفرنسا، قام أساتذة كلية الطب وجمعيات الأطباء وأصدقاؤه وطلبته بتكريمه. ورغم شدة مرضه ووهن جسده، فقد فاجأ الحضورعندما أخذ الكلمة التي حولها الى محاضرة حول تاريخ جراحة الأطفال بالمغرب واستمرت أزيد من ساعة، كان يتحدث بوضوحه وبيداغوجيته المعروفة ودقة في الطرح  جعلت الحاضرين مشدودين ومشدوهين إليه، مأخوذين بتلك الطاقة الايجابية التي صاحبته طول حياته والتي أهداها إياهم في نفس أخير.

كان هذا اللقاء آخر لقاء جمعها به هي التي اختارت الصفوف الأخيرة، واستراق السمع والبصر لصديق وأستاذ كانت تحترمه كثيرا وتقدر الإنسان داخله قبل أن يرحل إلى دار البقاء  يوم 21 غشت 2011.

خلف البروفيسور الهاروشي عدة مؤلفات هامة تعتبر مراجع أساسية في البيداغوجيا وجراحة الأطفال.

تقول فاتحة: “أنا مدينة له بالكثير، فقد عززت ثقته فيّ ثقتي في نفسي وهو من عرّفني بالدكتور السجلماسي كما شجعني بحماس على استلام العيادة بعده”.

 

الحلقة 14: “أطباء بصموا المسار الطبي لفاتحة مرشيد/ البروفيسور عبد الرحيم الهاروشي”، الاتحاد الاشتراكي، الثلاثاء 16 يوليوز 2019، العدد 12288.