فاتحة مرشيد في مخالب المتعة، من الشعر إلى الرواية رحلة ملأى”

عبد الرحمان مجيد الربيعي

 

وقفــة متأنيـــــة: أيام مغربية (3): فاتحة مرشيد في «مخالب المتعة»: من الشعر إلى الرواية رحلة ملأى

  • بقلم: عبد الرحمان مجيد الربيعي

جاءت الدكتورة فاتحة مرشيد إلى الشعر من الطب، ولا ندري إن كانت تكتب الشعر في سنوات الدراسة التي لا علاقة لها قطعا بالشعر، كيف يتآخى المبضع مع الكلمة المجنحة؟

ذلك سؤال يخطر بالبال. لكننا سنتجاوزه لنتحدث عن شعرها الذكي في دواوينها: إيماءات (2002)، أوراق عاشق (2003)، تعال نمطر (2006)، أي سواد تخفي يا قوس قزح (2006)، ولها أيضا ديوان جديد صدر في مطلع هذا العام ببيروت.

ثم تخصصت د. فاتحة مرشيد في طب الأطفال، ولها عيادة معروفة في الدار البيضاء وقد أصدرت في مجال اختصاصها هذا كتابا بعنوان «الاسعافات الأولية للطفل» عام 2005 .

لكن فاتحة مرشيد وبعد الأصداء الطبية التي نالتها دواوينها، والدراسات التي كتبت عنها بأقلام نقاد معروفين انعطفت نحو الرواية وأصدرت عام 2007 روايتها الأولى «لحظات لا غير»، وكانت تلك الرواية مفاجأة الوسط الأدبي المغربي، فالطبيبة الذاهبة للشعر بكل أناقتها ها هي تكتب الرواية، تكتبها بحرفية الطبيبة ودقتها وبسماحة الشعر وغنائيته العالية، لماذا يذكرني عنوانها ببيت من قصيدة تغنيها وردة ويقول:

أشتري منك بعمري * لحظات لو تبيع؟

عندما قرأت تلك الرواية بحثت عن الشعر فيها، فوجدتها ناعمة مثل قصيدة، جمل قصيرة مختزلة، مشيدة بدقة نحلة ومهارتها. وقد قرأتها وكأنني أقرأ قصيدة رغم ما حوته من حكاية صعبة.

ثم ها هي تفاجئ الوسط الأدبي بروايتها الثانية «مخالب المتعة» التي وقعتها في معرض الدار البيضاء للكتاب هذا العام.

تتناول فاتحة في روايتها هذه أوضاع بعض الشبان العاطلين عن العمل بعد أن أكملوا تعليمهم وحصلوا على شهائدهم العالية.

كان أمين وهو أحدهم يمضي أيامه متثائبا في المقاهي، يقرأ طلبات الشغل في الصحف، ولولا المبلغ البسيط الذي تدفعه له أخته كل صباح لما كان بإمكانه دفع ثمن قهوته.

ثم هبط عليه صديقه عزيز وزميله في الجامعة الذي يسبقه عطره الثمين، وأناقته المفرطة لا تتناسب مع وضعه الاجتماعي. لكنه رمى لصاحبه بكلمات لم يستطع استيعاب مدلولاتها، فهما رغم صداقتهما وعيشهما المشترك في غرفة مكتراة بالرباط أيام الدراسة الجامعية إلا أنهما كانا مختلفين، عزيز وانغماسه في المغامرات النسائية وأمين في رومانسيته الحالمة إذ لا يشغله شيء إلا التخرج والحصول على الشهادة الجامعية عله يحصل على عمل به يعين أسرته التي كانت تنتظره كالمخلص مما هي عليه.

كان عزيز يبحث عن (جغرافية النساء) ويشرحها: (هضاب ووديان وجبال وسفوح ومغارات، ما كنت لتتخيلها، لا توجد في أي من المراجع التي سهرنا الليالي في ازدهارها.. يا حسرة على الزمن الضائع).

لكن حديثا كهذا لا يعني شيئا لأمين الذي ينتظر العمل، أي عمل، لكن الشرح جاءه من عزيز: (أنا لا أكلمك عن حب المراهقات اللواتي ينتظرن منك أن تؤمّن لهن تذكرة سينما، وساندويتش ماكدونالد، مقابل رسائل حب ودموع لا تسمن ولا تغني من جوع. أنا أتكلم عن النساء الحقيقيات، صاحبات العطاءات من غير حساب).

هنا يبدأ قارئ الرواية بالتعرف على ما يقوم به عزيز من ملاحقة لنساء موسرات، زوجات رجال أعمال أثرياء، لهم عالمهم ورحلاتهم، لكن زوجاتهم اللواتي ينفقن أوقاتهن في الزيارات ونوادي التمسيد والبحث عن العطور والأزياء لهن أيضا مغامراتهن حيث يتعرفن على شبان أصغر منهن ويقدمن لهم المال مقابل العلاقات الجسدية.

لقد عرف عزيز هذا الطريق وهو الذي لم يعرف الحب الأسري مثل أمين، إذ طلق والده أمه وهو في التاسعة، وتزوجت أمه بعد انقضاء فترة العدة، وعاش مع أبيه الذي سرعان ما تزوج هو الآخر.

وربما كان هذا الموضوع قد كتب عنه، ولكن بشكل مختلف، أذكر هنا مسرحية «خريف امرأة» لتني وليامز الكاتب الأمريكي المعروف الذي عاش بضع سنوات في طنجة، وقد تحولت إلى فيلم سينمائي بطلته الممثلة الشهيرة فيفيان لي احدى زوجات عميد المسرح البريطاني سير لورنس أوليفيه.

والاختلاف متأت من أن وليامز رصد في مسرحيته نماذج من السيدات الأمريكيات المسنات والثريات واللواتي يتحولن للسياحة في إيطاليا، وقد وضعن في حسابهن التعرف على شباب وسيمين يحترفون مهنة ارضاء نزوات النسوة القادمات بمقابل مالي يجري الاتفاق عليه مسبقا. انها عملية بغاء وبيع جسد معكوسة.

لكن فاتحة مرشيد في روايتها هذه أبقت الأحداث في محيطها المغربي سواء ما تعلق منها بالنساء أو بالفتيان الذين يحترفون هذه المهنة التي توفر لهم حياة البذخ التي لن يحصلوا عليها أبدا من أية وظيفة.

وفي اللقاء الثاني بالمقهى نفسه حضر عزيز بسيارة فارهة، وعندما سأله أمين عنها أخبره أنها لصديقته، ثم كان جوابه الواضح على سؤال أمين إن كان يحبها أم لا؟ (لا يجب أن أحبها، لا يجب أبدا المزج بين الحب والعمل).

ثم أخذه معه بالسيارة ليعرفه على صديقته ليلى بعد أن حدثها عنه، وقد بهر أمين بما هي عليه من فتنة وأناقة رغم أنها أكبر من عزيز بكثير.

استأذنا من أمين ودخلا ليبقى وحيدا مع سيقارته (وإذا بسيدة فارعة القوام، كأنها حورية خرجت لتوها من البحر، تأتي إلى الشرفة وقد بدت عليها الدهشة من تواجدي هناك) ـ الرواية كلها كتبت بضمير المتكلم لأمين ـ كان أمين قد عاش تجربة حب لكنها انتهت بزواجها من آخر بعد أن طالت رحلة بحثه عن العمل، لذا كان يتمنى هذه المرأة الجميلة ويحاول أن يقرنها بصورة الفتاة التي فقدها.

كانت واثقة من نفسها، أعدت لها كأسا من الشراب وسألته إن كان يريد كأسا فأجابها بنعم.

ثم رنّ هاتفها فردت عليه، وقالت لأمين دون أن يسألها عن المتكلم:

ـ انه زوجي

وعندما حضرت ليلى وعزيز صافحتهما واستأذنت بالذهاب واصفة زوجها بـ»الذئب» الموجود في البيت الآن.

وسبقتهم «بسمة» ـ وهذا اسمها ـ ثم خرجوا بسيارة ليلى التي أوصلتهما لمحطة القطار ومضت.

هنا تنجح الكاتبة في رسم علاقتين مضت كل واحدة منهما باتجاه، فعزيز يجد نفسه وقد وقع في حب ليلى فعلا وجعله هذا الحب تعيسا رغم أنهما اتفقا على علاقة مدفوعة الثمن.

أما أمين وبسمة فقد عاشا علاقة ناعمة، يلتقيان كل مرة في غرفة بفندق ليتحدثا فقط، لقد تآلفا إلى أبعد حد وأحبّا بعضهما حبا استثنائيا.

وتتصاعد الأحداث بعد أن تخلت ليلى عن عزيز الذي صار يلاحقها ولكن بلا فائدة حتى جاء رجال الشرطة إلى بيت أمين ليرافقهم إلى المركز ليستجوبوه. وعرف ما أذهله منهم: (لقد قتل عزيز عشيقته ليلى وسلّم نفسه).

استجوبوه عن علاقته بعزيز ثم أخلوا سبيله.

وبعد شهرين جاءه تليفون بسمة فذهب للقائها في الغرفة التي حددتها من أحد الفنادق الفخمة لكنه لم يجدها بل وجد رسالة له منها، وفيها عرف أنها نفذت رغبة زوجها في الهجرة إلى كندا، وأنها الآن في الطائرة إليها. ومن الرسالة عرف أن ليلى أحبت صديقه فعلا: (أعلم أنني سأفاجئك بقول ان ليلى التي خافت الحب وكأنها تعلم أنه قاتلها، أحبت عزيز بكل جوارحها) وقالت بسمة في رسالتها أيضا: (كانت لفرط خوفها من الألم تحتمي من الحب بالمتعة، رافضة أن ترى فيها غير ابتسامتها الساطعة. بيد أن للمتعة كما للحب مخالب قد تخدشنا، قد توجعنا، قد تدمينا، وقد تفتك بنا ذات جرعة زائدة، وكقدر ساخر كان عزيز حبها وجرعتها الزائدة).

لكن بسمة لم تنس أنه عاطل عن العمل لذا وجدت له عملا لتطمئن عليه، وزودته بالرسالة التي عليه أن يحملها إلى مدير المعهد العالي للتكوين ليتسلم عمله (يمكنك الآن الاشتغال على أطروحتك في ظروف جيدة).

وخرج من الفندق (بجيبي رسالة وداع وتوصية شغل).

في الرواية شخصيات جانبية لكنها مهمة ونذكر هنا شخصية ادريس الرسام الذي أدمن مشاهدة الأفلام الهندية، وأصبح له حلم واحد أن يزور الهند، لكن أولاده يحجرون عليه عندما أعدّ نفسه للسفر بعد تقاعده فقتلوا حلمه.

وهناك أيضا شخصية ميمي صاحبة الحانة التي كان يرتادها عزيز وأمين، وقد وقفت مع عزيز ولم تتخل عنه وأوكلت محاميا للدفاع عنه، لأنها كانت تحبه بإخلاص.

وإذا قارنا هذه الرواية بروايتها الأولى سنجد الكاتبة قد توصلت إلى لغة عملية، لا يأخذها التحليق الشعري بعيدا رغم أنها تطير بجناحيه، كما انها قدمت «حكاية» مختلفة تماما عن «حكاية» الرواية الأولى.

هذه رواية مهمة أثرت رصيد الرواية العربية في المغرب ولذا احتفى بها الوسط الأدبي احتفاء هي جديرة به.

 

جريدة الشروق التونسية

السبت 4 أفريل 2009